زلزال غزة وتساؤلات حول مستقبل إسرائيل- أفول أم تحول؟

المؤلف: فهمي هويدي08.12.2025
زلزال غزة وتساؤلات حول مستقبل إسرائيل- أفول أم تحول؟

هل تتلاشى إسرائيل لتصبح مجرد ذكرى في صفحات التاريخ؟ لا أملك إجابة قاطعة، ولكن لدي تأملات أود مشاركتها حول دواعي هذا التساؤل، خاصة بعد مرور ثمانية أشهر على الحرب الدائرة في غزة، والتي خلفت أصداءً مدوية في شتى بقاع العالم. كان أبرز هذه الأصداء ما شهدته 58 جامعة ومؤسسة علمية أمريكية، تلك الانتفاضة التي فاجأت الجميع نظرًا للعلاقات التاريخية الوطيدة التي تربط واشنطن بتل أبيب. لا يمكن تفسير هذه المفاجأة إلا كدليل على قوة وعمق الصدمة التي أحدثها السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتي تجاوزت ارتداداتها منطقة الشرق الأوسط لتُدخلنا إلى عالم جديد لم تتضح معالمه بعد، وإن بدت بعض بشائره في الأفق.

*

لنتأمل قليلًا في مشهد التظاهرات الطلابية الأمريكية، الذي أرى أنه يساعدنا على استكشاف خلفية السؤال الذي طرحته آنفًا. فهذه التظاهرات اندلعت في أحد معاقل النفوذ الأمريكي، الذي يمثل الداعم الأساسي لحملة الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون.

تكمن أهمية هذه التظاهرات في أنها أعادت إلى الذاكرة الأساليب التي استخدمها الطلاب الأمريكيون في عام 1968 احتجاجًا على حرب فيتنام، وكذلك ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. لم يقتصر الأمر على رفضهم لأهوال الحرب وفظائعها، بل مارسوا ضغوطًا لسحب الاستثمارات من جنوب أفريقيا، التي حظيت بدعم الغرب للأقليات البيضاء لنظامها العنصري والاستعماري، وهو ما ساهم، إلى جانب عوامل أخرى، في عزلها وتزايد الضغوط السياسية لمقاطعتها دوليًا، ثم سقوطها بعد سنوات.

هذا ما نشهده اليوم في الحراك الطلابي بالولايات المتحدة، والذي امتد صداه إلى مختلف أنحاء أوروبا، مما يدل على أن أحداث الحرب، بعد أن كشفت الوجه الحقيقي لإسرائيل أمام العالم الخارجي، قد أفقدتها الرأي العام الغربي، الذي يُعد رصيدًا استراتيجيًا بالغ الأهمية لها.

قد يفسر ذلك رد الفعل الهستيري الذي أقدمت عليه إسرائيل في غزة، وإدراكها لخسارتها لقضيتها. فقد لجأ أنصار إسرائيل في أمريكا إلى إجراءات قاسية لمواجهة منتقديها ومعارضيها، مثل عزل رؤساء الجامعات، وتهديد الطلاب في مستقبلهم التعليمي وفرص توظيفهم، وتأييد قمع الشرطة لهم، وهو ما زاد من حدة الغضب والاستياء في صفوف الحركة الطلابية. لم تفلح الدعاية الإسرائيلية في تشويه التظاهرات من خلال الادعاء بمعاداة السامية أو التمويل من حماس وحزب الله، أو الزعم بأن الفلسطينيين مخربون وإرهابيون.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن خسارة الرأي العام الغربي صاحبتها زيادة في دور اليهود الليبراليين، الذين رفعوا لافتاتهم في المظاهرات الجامعية بشعار: "يهود مع فلسطين". أتاحت هذه الأحداث الفرصة لارتفاع أصوات كانت خافتة ترفض الصهيونية، والتي التزمت الصمت لسنوات طويلة. عبرت الكاتبة الكندية الشهيرة نعومي كلاين عن ذلك في مقال لها في صحيفة الغارديان (24/4) بعنوان: "نحن بحاجة إلى هجرة الصهيونية"، وكتبت: "نحن لا نحتاج ولا نريد صنم الصهيونية الكاذب، لكننا نريد التحرر من المشروع الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا".

*

إن زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأول كشف قبح وجه إسرائيل الذي لم يكن واضحًا للجميع منذ احتلالها لفلسطين في عام 1948. كما أسقط العديد من الخرافات التي روجت لها منذ ذلك الحين، وعلى رأسها ما يتعلق بجيشها "الذي لا يقهر"، أو ديمقراطيتها التي أخفت بؤس العنصرية في النظام الذي تفرضه على الفلسطينيين، ولكن هناك جوانب أخرى لم تحظَ بالاهتمام الكافي.

من بين هذه الجوانب ارتدادات الحرب التي لا تزال تتفاعل داخل إسرائيل، ومنها الاستقالات غير المألوفة في رئاسة جهاز الاستخبارات ورئاسة أركان الجيش وقادة الفرق بعد الهزيمة العسكرية. ولكنني أود أن ألفت النظر إلى أمرين مغفول عنهما، وهما تنامي دور الصهيونية الدينية التي أصبحت قوة مؤثرة في القرار السياسي وممثلة في الحكومة والكنيست. والأمر الثاني يتمثل في التدهور المؤلم في الاقتصاد الذي بات يهدد مستقبل التنمية في دولة الاحتلال.

فالصهيونية الدينية بأطيافها المختلفة التي تحكم إسرائيل منذ عام 1977 تعتبر أنه لا وجود لشعب فلسطيني أصلًا، وبالتالي ترفض إقامة دولة فلسطينية لأسباب عقائدية، وتزعم أن شعب إسرائيل وحده صاحب "الحق الحصري" في الأرض، ومن ثم لا يجوز التنازل عن أجزاء منها. وهذا يعني أنه من الضروري العودة إلى احتلال غزة ونشر المستوطنات في أرجاء القطاع. وفي الوقت ذاته لا مكان لموضوع حل الدولتين الذي يعتبرونه ضربًا من العبث السياسي والإعلامي، بينما يتحركون بهمة على الأرض للحيلولة دون التفكير فيه من الناحية العملية.

هذه الآراء التي كانت تعتبر متطرفة، أصبحت تتغلغل في أوساط التيار الرئيسي في المجتمع، ولم تعد هامشية أو محدودة، كما ذكرت إيناس إلياس في صحيفة "يسرائيل هيوم" في 31 يناير/كانون الثاني الماضي، ونتيجة لذلك أصبح طلاب المدارس الدينية يمثلون مشكلة حادة داخل إسرائيل.

فطلاب المدارس الدينية (60 ألفًا) يمثلون معضلة داخل إسرائيل؛ لأنهم معفون من التجنيد ويتقاضون راتبًا مقابل تفرغهم للدراسة والعبادة والدعاء لجيش الاحتلال بالنصر. والقوى المدنية تستنكر إعفاءهم من التجنيد وتكليف الجيش وحده بالقتال مع مكافأة المتدينين للتفرغ للدعاء. ولحاخامهم الأكبر يتسحاق يوسف تصريحات هدد فيها بالسفر الجماعي خارج البلاد في حالة إجبارهم على الالتحاق بالجيش، خاصة أنهم يمثلون قوة تصويتية وازنة تعتمد عليها أحزاب اليمين في انتخابات الكنيست.

*

أما الأزمة الاقتصادية فهي أشد وطأة. وهذا ما عبرت عنه دراسة نشرت في مجلة فورين بوليسي (في 30 يناير/كانون الثاني الماضي) بعنوان: "نهاية الازدهار في إسرائيل". وكتبها ديفيد روزنبرغ المحرر الاقتصادي لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية. ذكر روزنبرغ أن الإسرائيليين كانوا قد اقتنعوا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بأنهم تجاوزوا فكرة أسلافهم القائلة بأن حربهم دائمة، وذلك بعدما اطمأنوا إلى استقرار أوضاعهم بعد تقليص الصراع، واستقرار أوضاع الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي دون منحهم دولة، خاصة بعد التطبيع مع بعض دول الخليج، ودخول إسرائيل في شراكات اقتصادية مع العديد من دول الإقليم والدول المجاورة.

هذا الوضع المتفائل منحهم شعورًا بالأمان والثقة، ما أدى إلى خفض الإنفاق الدفاعي من 15.6 % من الناتج المحلي الإجمالي في 1991 عشية اتفاق أوسلو إلى 4.5 % عام 2022. كما ازدادت نسبة الشباب الذين حصلوا على إعفاء من الخدمة العسكرية إلى أقل من 50 % عام 2021. كان هذا تحولًا كبيرًا في المواقف الإسرائيلية، نتيجة اعتماد الجيش الإسرائيلي على التكنولوجيا والقوات الجوية بدلًا من الدبابات والمشاة لتحقيق الردع.

يرى الباحث أن انخفاض العبء العسكري، وتزايد الشعور بالأمن والاستقرار أعطيا قوة دفع هائلة للنمو الاقتصادي، تفوق بكثير الزيادة في الإنفاق العسكري، إلا أن هذا الوضع المثالي اختلف تمامًا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

فتغطية نفقات الحرب أدت إلى رفع الإنفاق الدفاعي بنسبة تقارب 80 % هذا العام، وستستمر هذه الزيادة، لأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول علم الإسرائيليين أن التكنولوجيا لها حدودها، وأنه لا شيء يمكن أن يحل محل القوات البرية.

لذلك لا مناص من التوسع في زيادة التصنيع العسكري وتمديد مدة التجنيد وإنفاق المزيد من الأموال على مخزونات السلاح. هذه التغييرات سيكون لها تأثير حتمي على الاقتصاد، وهو ما بدأ يظهر في وقت مبكر من الحرب، حيث قامت وكالات التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز وموديز وفيتش بتخفيض توقعاتها للاقتصاد الإسرائيلي إلى سلبية.

*

أود أن أضيف ملاحظتين؛ الأولى هي أن الهجمة الشرسة التي تشنها إسرائيل، والتي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية، يحركها شعور دفين بأنها مستعمرة استيطانية قريبة من الزوال. يؤيد هذا الرأي بعض المؤرخين النقديين، مثل إيلان بابيه وجوزيف مسعد، الذين يذكروننا بالسنوات الأخيرة لجميع المستعمرات الاستيطانية التي تميزت بوحشية متزايدة من قبل المستعمرين. فكلما زادت مقاومة السكان الأصليين للمستعمرين، خاصة خلال حروب التحرر الوطني، أصبح المستعمر أكثر وحشية، كما رأينا في جنوب أفريقيا وناميبيا والجزائر.

أما الملاحظة الثانية، فأستلهمها من فكرة أفول الدول العظمى والحضارات، والتي أصبحت موضوعًا ذا أهمية متزايدة للباحثين والمؤرخين. من بين هؤلاء المؤرخ والفيلسوف الفرنسي اليهودي إيمانويل تود، الذي تنبأ بانهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه الذي صدر عام 1976 بعنوان: "السقوط الأخير". وأتبعه بكتاب: "ما بعد الإمبراطورية" في 2021 والذي قدم فيه حججه على أفول أمريكا كقوة عالمية مهيمنة. ثم واصل طرحه في كتابه: "هزيمة الغرب" الذي تناول فيه حرب أوكرانيا وتداعياتها الأوروبية، وأسباب الهزيمة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي توقعها.

حين نستعرض حلقات الضعف وسلسلة الإخفاقات التي منيت بها إسرائيل، فإن ذلك يبرر لنا أن نتأمل في فكرة الأفول، التي تجعل المشروع الصهيوني مرشحًا للانضمام إلى صفحات التاريخ. فرغم أن إسرائيل ليست إمبراطورية أو حضارة أو دولة عظمى، وإنما هي نبتة شيطانية غرسها الغرب وتبنتها الولايات المتحدة قسرًا في قلب العالم العربي، بعدما أصبح الآن في أضعف حالاته منذ نشأته.

إذا رأينا البدايات بأعيننا في غزة خلال الأشهر الماضية، فقد بات من حقنا أن نتساءل عما إذا كان الوقت قد حان لإعادة النظر في تصنيفها، لكي تخرج من عداد دول هذا العصر وتدرج، مثقلة بسجلها وخرافاتها، ضمن صفحات التاريخ الغابر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة